بقلم الكاتب الصحفى أيمن شاكر
رئيس قسم الأدب ✍🏻
كُنَّا قصيدةً ناقصةً كُتِبَتْ على جدرانِ الزمنِ العابر .. أنا فتىً في العشرينيات ، تحملُ أحلامي أكثرَ مما تحملُ جيوبي ، وهي امرأةٌ ناضجةٌ تبحثُ عن مرفأٍ آمنٍ . أحببتُها بكلِّ ما في الشبابِ من شرودٍ ، كطائرٍ يغني لأولِّ غصنٍ يلمسهُ .. لكنّي كنتُ غصناً هشاً ، بلا جذورٍ تتحملُ ثقلَ بيتٍ ، ولا أجنحةً تُظلُّ أسرةً .
يومها ، كانت عيناها تسألانني : متى تُصبحُ رجلاً ؟ ولم أجدْ إجابةً سوى صمتٍ مُذلٍّ . رحلتْ لأنّي لم أكن سوى "وعدٍ" غير مكتملٍ ، بينما كان العالمُ من حولها يقدّمُ "ضماناتٍ" ماديةً!
لم تبكِ يومَ ودّعتني .. لكنّ صمتَها كان أقسى من صرخةٍ.
وفى يوم زفافها أرسلتْ رسالةً جافةً كالشتاء :
لن أنتظرَ حباً لا يعرفُ طريقَ الزواجِ .. تزوجتُ مَن يبني لي حياه .
كلماتٌ قليلةٌ .. ولكنّها مزّقتْ قلبي كإعصارٍ . بقيتُ واقفاً كشجرةٍ جرداءَ ، أتساءل : كيف يُنهي الحبُّ بهذه البساطة ؟
وكيف تُباد سنواتُ الولع ببرودِ سطورٍ ؟
سقطتُ في قاعِ نفسي .. ثمّ قررتُ أن أحفرَ من أعماقِ يأسِي سلّماً للسماءِ.
حوّلتُ دموعي إلى وقودٍ ، وصمتي إلى إرادةٍ ، وكبريائي المحطّمَ إلى خريطةٍ لأعالي القممِ.
في ورشاتِ العملِ الباردةِ ، وتحت أضواءِ المكتباتِ المتأخرةِ ، وعبر ليالٍ لم ترحمْ جفوني ..
كنتُ أتحدّثُ مع شبحها : "سأصبح رجلاً لا يُرفَضُ مرّتين !".
لم يكن الطريقُ معبّداً .. بل كان جبلاً من شظايا أحلامي المكسورةِ . كلّ فشلٍ كان يهمسُ :
أنت ذلك الفتى الفقيرُ ، لكنّي كنتُ أصرخُ في وجهه : " انتظر النهايةَ ".
إحدى عشر سنه .. تحوّلت فيها من حطامٍ إلى صانعِ معجزةٍ . يومَ وقفتُ على منصّةِ التكريمِ ، وأصبحَ اسمي عنواناً للنجاحِ ، نظرتُ إلى الجمهورِ .. وفجأةً ، رأيتُ عينينِ تلمعانِ من بعيدٍ كنجمتينِ نائمتينِ .. عيناها !
لم تطلّق .. لكنّها عادتْ كشبحٍ من ماضٍ لم يدفنْ بعد.
وقفَتْ خلفَ الزحامِ ، تنتظرُني كطفلةٍ ضائعةٍ. عندما اقتربتُ ، رأيتُ السنينَ قد نحتتْ تجاعيدَ الندمِ على وجهها ، ويداً ترتجفُ تمسكُ هاتفاً تظهرُ فيه صورةٌ لعائلتِها ، وهمستْ بصوتٍ مكسورٍ :
كلّ ليلةٍ أرى صورتَكَ في الصحفِ .. أتألمُ لأنّ الثمرةَ الذهبيةَ التي سقيتُها بيديّ ، جَنَيتُها بيدٍ أخرى ! زوجي يبنيني حجراً حجراً .. لكنّهُ لا يعرفُ أنَّ قلبي يسكنُ في قصرِكَ المهجورِ .
نظرتُ إلى خاتمِ زواجِها .. فشعرتُ كأنّ سكيناً بارداً يخترقُ صدري . تذكّرت يومَ رحيلها وكأنّه بالأمسِ : الحياةُ تحتاجُ أكثرَ من كلماتٍ .. واليومَ ، أصبح لديّ كلُّ شيءٍ .. إلّا أنّها أصبحت ممتلكاتٍ غيري !
جلستُ أمامها .. لا كالفتى الخجولِ ، بل كرجلٍ يعرفُ ثمنَ جراحِه . قلتُ ببرودٍ يُخفي عاصفةً :
"ذاتَ يومٍ .. باعتني امرأةٌ بثمنٍ بخسٍ لأنّها ظنّتني عملةً مغشوشةً . اليومَ ، حين أصبحتُ كنزاً .. تريدُ أن تستردّني ؟
مَن قالَ إنّ القلوبَ سوبر ماركتٌ تُفتحُ متى شئتِ ؟
دمعتْ عيناها .. لكنّ دموعَها هذه المرّةَ لم تُؤلمني. بل أشعلتْ في قلبي كلماتٍ كنتُ أخبئُها منذُ إحدى عشرِ سنه :
"هل تعرفينَ ما كان أسوأَ من يومِ فراقِنا ؟
أنَّ رسالتَكِ لم تحوِ كلمةَ (آسفة) ! كنتُ سأحترمُ صراحتَكِ .. لكنّكِ جعلتِني أشعرُ أنّني قمامةٌ تُرمى في الظلامِ .
ربّما كانت أقسى لحظةٍ .. أنني نظرتُ إليها فلم أعدْ أرى المرأةَ التي سرقتْ نومي .. بل رأيتُ غريبةً تبحثُ عن كنزٍ ضاعَ منها .
قلتُ لها :
الزهرةُ التي تسقطُ عن غصنِها الأصليّ .. حتّى لو التقطها أرض مليئه بالورود .. ستظلُّ ناقصةَ الجمالِ ، أنتِ الآنَ في حديقةٍ ظاهرها جميل .. لكنّ عطرَكِ فيها مزيفٌ . لأنّ الحبَّ الحقيقيَّ لا يُزرعُ مرّتينٍ في تربةٍ واحدةٍ "
ثم أغلقتُ حوارنا بكلماتٍ كالمطرِ الحامضِ : عودي إلى زوجِكِ .. فهو لم يخنْكِ مثلي !
أنا فقط مَن خانَ نفسي .. حين ظننتُ أنّ الحبَّ ينتظرُ .
وفي طريقِ عودتي .. مررتُ بأحيائنا القديمةِ. رأيتُ المقهى الذي كنّا نلتقي فيه .. والحديقةَ التي اختبأنا فيها من أعينِ الناسِ . وتوقفتُ عند مكانٍ كان شاهداً على أولِ قبلةٍ بيننا .. وبكيتُ !
ليس لأنّي أريدُها .. بل لأنّي ودّعتُ أخيراً شبحَ الفتى الذي كنتُه ! الفتى الذي ظنّ أنّ الحبَّ يغفرُ كلَّ شيءٍ .. حتّى الهوانَ !
واليومَ .. أفهمُ معنى كلمةِ (فاتَ الأوان) فهماً يدمي الروحَ :
فالفرصُ مثلُ الأوراقِ الخريفيةِ .. تسقطُ مرّةً واحدةً . فمَن لا يلتقطها حين تكونُ ذهبيةً .. لن تعودَ إليهِ إلّا ذرّاتٍ ترابٍ في عاصفةٍ .
هي الآنَ تعيشُ في قفصٍ أظن أنه من ذهبٍ .. لكنّي رأيتُ في عينيها سؤالاً معلّقاً :
هل لو انتظرتُ قليلاً .. لكنّا الآنَ معاً في قمّةٍ لا يُلامسُها الغيمُ ؟
أمّا أنا .. فأجبتُ نفسي بصوتٍ عالٍ :
لا تندمي على ظلالٍ فارقتِها .. فالذي يبيعُ وطناً للحصولِ على سجنٍ .. لا يستحقُّ إلّا أن يموتَ غريباً بين جدرانِه
لقد رحلتَى حين كُنتُ أضعفَ ما أكون ..
فعُدتِ اليومَ .. وقد أصبح قلبي حجراً صلداً .
يُلمعُ في الظلامِ .. لكنّه لا يُدفئُ أحداً .
اغرقي في ندمِكِ .. كما غرقتُ أنا في صمتِكِ الأبديّ .. فالقلب الذي لا ينتظرُنا حين نكونُ تراباً .. لا نستحقّه حين نتحوّلُ إلى ألماسٍ .
فالمرأةُ التي تظنُّ أنّ الرجالَ أشجارٌ تُقلَّعُ وتُستبدل .. ستجِدُ نفسَها يوماً واقفةً في صحراءٍ .. تَح
ملُ جذورَها المقطوعةَ كحقيبةٍ
سنلتقى إن كان فى العمر بقيه
إرسال تعليق
0تعليقات