أيمن شاكر يكتب : التخطيط كالحراثة والبذر ، أما إنبات الزرع ونماؤه وحصاده ، فذلك إلى الله

Ayman
By -
0



بقلم الكاتب الصحفى أيمن شاكر 

رئيس قسم الأدب ✍🏻 

خطّطت بحبر العقل وورق الأمل ، وظننت أن الخيوط في يديك ، وأن الأبواب ستُفتح بمفاتيح حساباتك الدقيقة. اجتهدت ونويت النية الصافية، ووضعت الخطط كالبناء المتين ، ثم جاءت النتائج كريح عاتية تهدم ما شيدته ، وتحمل في طياتها شيئًا مختلفًا تمامًا ، شيئًا لم تخطر ببالك ، شيئًا اسمه "النجاة". في تلك اللحظة ، حيث يصطدم رأسك بجدار الواقع المُخالف، تتفتح عيناك على حقيقة عميقة : " لا تُدبّر لك أمرًا … فالأمر كلّه بيد الله". هذه ليست دعوة للكسل أو الاستسلام السلبي، بل هي إيقاظ للقلب ليرى ما وراء الأسباب الظاهرة ، ليدرك أن يدًا حكيمة ترسم خريطة رحلتك من مكان لا تراه عيناك.


💧كم من مرة ظننت أن الخير مُعلّق باختيارك ، بذلك الطريق الواضح الذي رسمته أمامك ؟ تسابق الخطى نحو ما تراه نافعًا ، متأكدًا أن السعادة تكمن في الوصول إليه. ثم فجأة ، وبينما أنت منهمك في الجري، تتعثر قدمك ، أو تُغلق الباب الذي كنت تتجه نحوه ، أو يأتيك الرفض الذي أحزنك في حينه. تنظر حولك حائرًا ، غاضبًا ربما ، محبطًا ، لا تدري لماذا حُرمت مما ظننته خيرك. لكن الزمن ، ذلك الكاشف الأمين ، يُميط اللثام عن وجه الحكمة. تجد نفسك تتنفس الصعداء لأنك لم تحصل على تلك الوظيفة التي سعيت إليها بكل جهدك، فتتجنب بيئة سامة كانت ستهدر روحك. تشكر القدر لأن ذلك العلاقة التي حلمت بها لم تتم، فتُفتح أمامك أبواب لنفسك ولإمكانياتك لم تكن لتخطر ببالك. تدرك أن الرفض كان درعًا، وأن الإغلاق كان تحويلاً لمسارك نحو ميناء أكثر أمانًا. الرحمة تأتي غالبًا من حيث لا تحتسب، من الزوايا التي لا تلفت نظر التخطيط المحدود، من السماء التي ترى ما لا تراه الأرض.


🩸وهنا يبرز الفخ الذي نقع فيه جميعًا: التعلق المرضي بتفاصيل خططنا الصغيرة. نتمسك بصورة النتيجة كما تخيلناها، نُصاب بالعمى عن أي شكل آخر قد يأتي به الخير. نربط سعادتنا وطمأنينتنا بتحقيق ذلك التفصيل الدقيق الذي رسمناه في أذهاننا. هذا التعلق هو مصدر القلق الأكبر، والشعور بالعجز عند أول منعطف غير متوقع. إنه يجعلنا نعيش في سجن توقعاتنا الضيقة، نرفض هبة الله التي تأتي في غلاف لم نعرفه. التحرر الحقيقي يبدأ عندما نُرخي قبضتنا عن تفاصيلنا، ونرفع أبصارنا نحو من "يُدبّر الأمر من فوق سبع سموات". الإيمان العميق بأن التدبير الإلهي لا يخطئ، وأن الرحمة الإلهية تُحيط بنا حتى في لحظات الفقدان والظلمة، هو الذي يمنح القلب سكينة لا يعرفها من يظن الأمر كله بيده.


💧فما المطلوب إذن ؟

هل نرمي الأقلام ونمزق الأوراق ونترك السفن بلا شراع؟ كلا. الأخذ بالأسباب واجب، والتخطيط بذكاء ونية صالحة عبادة. لكن الفارق الجوهري هو في القلب والنية. التخطيط كالحراثة والبذر، أما إنبات الزرع ونماؤه وحصاده، فذلك إلى الله. المطلوب هو الجهد مع الاستعداد القلبي لقبول أي نتيجة تأتي، مع اليقين بأنها – أيًا كانت – تحمل في طياتها خيرًا مُعدًا لك، حتى لو احتجبت الحكمة عنك لحين . 


💧المطلوب هو التوكل الحقيقي بعد الأخذ بالأسباب، أن تعمل وكأن الأمر كله عليك، وتثق وكأن الأمر كله لله. المطلوب أن "تدع الأمر لصاحب الأمر"، لأنك في صدقك مع نفسك تعلم أنه "أرحم بك من نفسك". نفسك قد تُضلّك بهواها، أو تقصر نظرها عن المستقبل البعيد، أو تضعف أمام المغريات الآنية. أما ربك، فهو العليم بما يصلحك، الحكيم في تدبيره، الرحيم الذي لا يريد لك إلا الخير، حتى لو اقتضى ذلك بعض الألم المؤقت لإنقاذك من هلاك أبدي، أو لفتح باب من النعم لم تكن لتصل إليه لو سار كل شيء حسب خطتك.


💧فإذا جاءتك النتائج على غير ما تشتهي، وتيقنت أنك قد بذلت جهدك بنية صادقة، فلا تحزن ولا تقنط. ارفع رأسك وقلبك نحو السماء، وردد بثقة الواثق : "حسبي الله ونعم الوكيل".

ثق أن يد الرحمن التي تمسك بالكون كله، هي ذاتها التي تُمسك بك، وتُدبّر أمرك. واعلم أن الرفعة تكمن في الاستسلام لعظمة من فوق، والطمأنينة الحقيقية تنبع من اليقين بأن كل خطوة، وكل انعطافة، وكل "لا" تأتيك، هي قطعة في لوحة رحمة مرسومة بحبّ لا يدرك كنهه بشر، لوحة اسمها حياتك. فدع القلق، وألقِ حمولتك الثقيلة، وتنفس بعمق.. 


🩸فالذي يدير الكون ، يُدبّر لك الخلاص من حيث لا ترى سوى الجدران ، ويُعدّ لك الفرج من قلب الظلمات التي تُخيّم على نفقك الضيق .. ثقْ ، فقط ثقْ ، فاليد التي تحمل النجوم ، تحملك .


سنلتقى إن كان فى العمر بقيه 

إرسال تعليق

0تعليقات

إرسال تعليق (0)