بقلم الكاتب الصحفى أيمن شاكر
رئيس قسم الأدب ✍🏻
💧تخيلوا مركبًا صغيرًا يتهادى فوق بحر هائج ، في ليل بهيم . الرجل يجدف بكل ما أوتي من قوة ، لكن الأمواج العاتية تتكسر على صدره : غلاءٌ يلتهم رزقه ، قوانينٌ تكبل حركته ، ومجتمعٌ يرصد كل حركة أو سكنة .. إن ارتفع صوته احتجاجًا على الظلم ، اتهم بالعنف ، وإن صمت تحت ثقل الحمل ، وُصم بالضعف والعجز . وفي المقابل ، الزوجة ترقب التجديف المضطرب ، يعتريها فزع الغرق ، فتخشى إن هي سكتت أن تُسلب حقوقها ، فتتناول الدفة بيد حازمة ، تهدد ، تشترط ، وربما تهجر .. في محاولة يائسة لإنقاذ المركب قبل أن تنشقّ سواقيه . هذا ليس خيالًا ، بل هو واقعٌ مؤلم تعيشه بيوت كثيرة .. انقلبت فيها الأدوار دون أن يشعر أحد .
💧لماذا توارى الربان ؟ لا عجزًا .. بل طوفانًا
الخطأ ليس في "اختيار" الرجل للضعف ، فما هو بضعيفٍ في قرارة نفسه . إنه يُساق بفعل الظروف القاهرة إلى موقع المُحاصر : مطالب بالإنفاق ، والإصغاء ، والتغافل ، والتبسم ، وفي أعماقه جمرة تتأجج ، جمرة القلق على مستقبل أبنائه ، وجمرة الإحباط من عجزه عن سدّ حاجاتهم تحت وطأة الغلاء ، وجمرة الغيظ من قيودٍ تشلّ إرادته ، وجمرة الخوف من أن تُساء تفسير كلمة صريحة فتُتهم بالعنف ، فيهوي كيان أسرته. يصمت لا حبًّا في الصمت ، بل رهبةً من النهاية – نهاية العش ، وزوال المأوى ، وذهاب الحلم . صمته درعٌ يتترس به ، ولو خنق أنفاسه.
💧المرأة .. لماذا تحولت إلى قبطانٍ صارم ؟
ردّ فعلها ليس دليلَ سوء طوية. فلطالما رأت ما ظنته ضعفًا تحت وطأة الضغوط الجارفة ، ولطالما أيقنت أنها إن لم تنل حقها بيدها ، فلن تناله ، فتحوّل خوفها إلى قوةٍ حازمة ، بل وعنيفة أحيانًا. إنها تحاول يائسةً أن تمسك بدفة مركبٍ تراه على شفا الغرق. فتفرض شروطها ، ترفع صوتها ، تلجأ إلى سلاح الهجر أو التهديد ، وتقرر المصير .. وهو صامت . إنها في عينها معركة وجود ، لكنها تُخاض داخل جدران البيت ، فتحيله إلى ميدان قتال.
💧الجرح النازف : غياب فكرة المصير الواحد
ليست المشكلة في قوة المرأة ، ولا في طيبة الرجل ، المشكلة الحقيقية تكمن في ذلك الشرخ السحيق : لا توازن .. لا شراكة حقيقية .. لا حدود واضحة . لقد غاب عنهما الوعي الجوهري :
أنهما في مركب واحد ، إن غرق ، لن يغرق الرجل وحده ، ولا المرأة وحدها .. بل سيغرق الجميع . نجحت الضغوط الخارجية الاقتصادية والاجتماعيه في اختراق حصن الأسرة ، فصرفت النظر عن "نحن" إلى "أنا" ، وعن التعاون إلى المواجهة ، وعن المودة إلى السجال القاسي.
أصبح كل طرفٍ يشعر بأنه الضحية الوحيدة ، غافلًا عن معاناة شريكه ، ناسيًا أنهما في القارب ذاته.
💧إعادة تأسيس "السَكَن" :
بيوتنا حقًّا في حاجة ماسّة إلى إصلاحٍ جذري يتجاوز تبادل الاتهامات ، تحتاج إلى رجالٍ يعرفون كيف يكونون حنونين دون أن يفقدوا هيبتهم ، هيبة الاحترام ، والقدرة على الحوار الهادئ ، والحماية المعنوية ، لا الهيمنة بالصراخ. وتحتاج إلى نساءٍ يعرفن كيف يكنّ أقوياء دون أن يهدم رجولة أزواجهن – قوة في الرأي ، وحكمة في التصرف ، وجرأة في المطالبة بالحق ، ولكن في إطار الشراكة والاحترام المتبادل ، لا الاستبداد أو الإلغاء . الحل ليس في العودة إلى النماذج القديمة المتصلبة ، بل في صياغة عقدٍ زوجي جديد يقوم على :
١- استعادة وعي المصير المشترك :
الإيمان بأن نجاح أحدهما هو نجاح للأسرة كلها، وأن سقوط أحدهما هو بداية السقوط الجماعي.
٢- الحوار الشجاع الصادق :
كسر جدار الصمت والخوف ، والبوح بالهموم والمخاوف والتوقعات ، بعيدًا عن لغة الاتهام والتجريح.
٣- ترسيم الحدود باحترام متبادل : تفهم أدوار ومسؤوليات وحدود كل طرف ، مع الاعتراف الكامل بقيمة وإنسانية ودور الآخر.
٤- إعادة تعريف المفاهيم :
فالقوة الحقيقية هي في الصبر والحكمة والعطاء، والرجولة في تحمل المسؤولية مع الرقة ، والأنوثة في القوة الواعية مع الرحمة.
🩸ختامًا ...
لقد خُلق البيت ليكون سَكَنًا ، ملاذًا من عواصف الدنيا وهمومها ، لا سجالًا يستنفذ الطاقات ويحرق القلوب. طريق النجاة لا يمر عبر إسكات صوت أو تحطيم إرادة ، بل عبر المودة التي تُطفئ نيران الخوف ، والتعاون الذي يبني جسرًا فوق بحر الهموم . فمركب الأسرة لن يبلغ شاطئ الأمان إلا إذا أمسك الربان والربّانة بالدفة معًا ، تتوجه أبصارهم إلى أفقٍ واحد ، واعين دومًا أن غرق أحدهم هو إيذانٌ بغرق الآخر .. وغرق الكل. فمن لم يتعلم أن يحب بشجاعة ، بشجاعة الاعتراف بالحاجة أحيانًا ، وبشجاعة الاعتذار عند الخطأ ، وبشجاعة طلب العون ، وبشجاعة احترام مشاعر شريك الحياة في ضعفه وقوته ..
فسيبقى ضعيفًا مهما تلبس من أسماء وستظل سفينته معرضة للأعاصير .. بلا ربان حكيم ، وبلا مرفأ أمان.
فهل ننقذ مراكبنا قبل أن تبتلعها الأ
مواج ؟
سنلتقى إن كان فى العمر بقيه
إرسال تعليق
0تعليقات